إسحق قومي
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

أيقظوا الحلم.. أريد أن أنام

اذهب الى الأسفل

أيقظوا الحلم.. أريد أن أنام Empty أيقظوا الحلم.. أريد أن أنام

مُساهمة من طرف إبراهيم رحمة الإثنين يونيو 16, 2008 6:04 pm

على غير العادة لم أر كوابيس أثناء نومي هذه المرة .. ربما لأنني اشتريت البارحة آخر مقطوعة لكلايدرمان – الموسيقي المعروف – وأطلقت لها العنان فقد نمت دون أن أوقف المسجل .. وراحت نغماتها تسبح في فضاء الغرفة رقم مائة وسبعة في الطابق الأخير لبناية في زقاق المقام .. إلا أنه كالعادة لم يستغرق الحمّام الذي آخذه كل صباح غير ربع ساعة بالدقيقة والثانية .. ولم تستغرق عملية الملبس كذلك .. هذه مدة سبعة عشر عاما على نفس النظام .. أستيقظ في حدود الخامسة فجرا أي قبل موعد الوظيف بثلاث ساعات .. أختلس النظر إلى صورةٍ لداروين معلقة في إطار قديم على حائط البهو المهترئ .. وإلى جانبه صورتان بالأبيض والأسود لفرويد وآنشتاين .. ألفت وجوههم مع أنني لا أتمنى اِلتقاءهم .. هذه مدة طويلة وإحساسي بالزمن يتلاشى .. ربما بسبب المدينة التي أسكن بها.. شديدة الإزدحام وتعاني قلة المواصلات بل وكثرة المتصيدين من أصحاب السيارات العائلية الذين يجدون في الموظف فريسة لإدخال بعض الدراهم إلى جيوبهم .. البعض يفضلهم إذ بدونهم هكذا يقولون ما وصلوا إلى الدوام في المواعيد المضبوطة .. أما أنا فأفضل التنازل عن النوم اللذيذ مقابل الحصول على مقعد بالحافلة الوحيدة التي تدخل الحي عند السادسة وتروح كالثعبان الجريح تتلوى بين زقاق وآخر .. ولا تلبث أن تمتلئ بل وتتفايض على جنباتها من أمثالنا الكادحين .. وكنت أراهم بقامات غير قامات الرجال .. لقد تغيرت بفعل الروتين وبفعل ربما أشياء أخرى لا أعرفها .. أكيد هذا أكيد وأنا أراهم يتشبثون بباب الحافلة الأمامي والخلفي أيضا .. يتقافزون فيسقط بعضهم لتدوسه الأرجل ويبدون قردة في أحد أدغال إفريقيا ثم لا ألبث أن أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم .. وكنت أنا من بين خلق كثيرين راض على حالي .. لم أشك يوما صعوبة الوصول إلى مقر العمل ولم أتبرم حتى بيني وبين نفسي .. وكنت قانعا .. أحب المواطن الذي يحب عمله ويتفانى فيه ويعطيه من وقته .. وحتى بهذا الشعور الذي أحسبه نبيلا ويحسبه كثيرون تنازلا مني في غير موضعه .. أظل شاعرا بالرضى حتى في ساعات الشدة والإحتياج .. فلا أظن أن على وجه الأرض من يكفيه راتب الوظيف ولو كان كبيرا ..
وهاأنا في آخر لحظات تهذيب هندامي وتسريح شعري أمام المرآة التي بدأت تتآكل من فرط التقادم .. ولا أظنني سأشتري واحدة جديدة فهذه تكفيني إذ ليس لي زوجة تصر عند كل صباح وأنا خارج إلى الوظيف .. تذكرني حتى لا أنسى فأشتري لها مرآة كما طلبت .. لأنني بكل بساطة ظللت عازبا .. لم أجد مبررا واحدا يدفعني إلى الإرتباط .. لامني بعض الزملاء .. غير أنهم ما لبثوا أن تراجعوا عن فكرة الضغط علي .. ربما لأنهم اقتنعوا بعبثية هذا الإرتباط .. ليس عبثية الإرتباط في حد ذاته .. بل عبثية البحث عمن تستحق الإرتباط .. لذا ارتضيت لنفسي أيضا أن أظل ذلك المواطن النزيه .. ذلك الروبوط الذي يقوم بكل ما يطلب منه .. حتى وأنا على الطريق أفرط في تلك المساحة البسيطة تحت قدمي لأول عابر سبيل يود المرور منها .. وما ضرني لو طلب مني الإبتعاد حتى إلى الرصيف المقابل .. هل سآخذ معي هذه الإمتيازات .. آخر المطاف شبر وبعض كتان وتمتمات إمام الحي يدعو لي بما وراء الغيب من خيرات .. هكذا حدثني جدي يوصيني وأنا على أعتاب المدرسة لأول مرة .. ومضيت على تلك الوصايا .. نقشتها في صدري ولم أشأ الميل عنها .. ليس ضعفا مني ولا خوفا .. بل لم أشأ بإرادتي ..
أخيرا أنهيت تسريحة الشعر.. لم يبق غير وثائق إثبات الهوية.. هي ضرورة ما بعدها ضرورة .. قد تفقد من دونها حياتك في هذه المدينة العريضة الطويلة المتداخلة.. آه ها هي.. جرس الباب يرن.. إنه بائع الحليب.. كل صباح يمر بي..
اتجهت ناحية الباب أفتحه.. كالعادة ألقيت عليه التحية قبل أن يبادرني بها.. ثم رفعت رأسي.. يا إلهي ماذا أرى ؟.. بائع الحليب برأس قرد.. ماذا أرى ؟ ارتعدت فرائسي .. عدت بضع خطوات إلى الوراء.. لم أصدق فركت أجفاني .. قرصت ذراعي .. أنا لا أحلم .. إنها الليلة الوحيدة التي لم أر فيها كابوسا .. أنا في كامل يقظتي منذ لحظات فقط أخذت حماما .. أجل .. أخذت حماما ثم هاأنا أستعد للتوجه إلى الوظيف .. رجل برأس قرد .. لم يمهلني هو الآخر سحبني من كتفي بقوة .. كانت قوة هائلة لم أجد معها حيلة للمقاومة .. استسلمت .. فرماني على إسفلت الطريق بعد أن جرجرني عند مدخل المنزل والرصيف .. وكان هناك بعض الخلق .. وعدد هائل من رجال لا أعرفهم لم أرهم من قبل .. فقط كل ما يميزهم رؤوس القردة .. كيف يصبح الإنسان برأس قرد .. ولم يطل ارتمائي كثيرا على إسفلت المدينة .. حتى رأيت سيارة البلدية قادمة عند المنعطف هرولت نحوها .. حاول ذاك الذي بجانبي منعي فارتطم بجاري فسقطا أرضا .. ووجدتني عند باب السيارة .. يا لفرحتي سأقابل عمدة المدينة .. أجل سأقابله .. إنه يعرفني جيدا .. ويعرف أنني منذ فتحت عينيّ في هذا الوجود لم أحلم بغير رغيف وبعض من الماء .. يعرف أنني مواطن نزيه وصالح .. سيحميني .. أجل لا بد أنه سيحميني .. سيدي .. سيدي العمدة .. لم أكمل كلماتي .. أحسست بشيء عظيم يقع على ظهري .. لم أستطع حتى الصراخ .. ألجمت والسيد العمدة يستدير ناحيتي فأرى رأسه كانت هي الأخرى رأس قرد .. قرد كريه يبعث القرف فيمن يراه.. وسمعت بعض لحظات قصار من يصرخ فيهم .. من أين أتيتم .. من أين أتيتم ؟ يقول آخرون .. هؤلاء هم شُذَّاذ الأرض .. شذاذ الآفاق الذين سمعنا عنهم .. يأتون من كل حدب وصوب .. وقال آخر .. مدينتنا طيبة لا تحتمل أمثال هؤلاء .. هل هي لعنة السماء .. وأنا في ذهولي واقع على الإسفلت البارد .. ينحني علي العمدة يرفعني بقوة من سترتي حتى كاد يمزقها .. ثم قال .. ها قد جاء وقت الحساب أيها الـ…… ، وراح يهزني بعنف وأنا أصرخ بملء فمي .. لا..لا..لا .. أنا النزيه في هذه المدينة .. لا..
ماذا ؟.. فتحت عيني .. ماذا أرى ؟ آية الكرسي في إطارها المعلق على الحائط أمامي .. في غرفة نومي .. موسيقى كلايدرمان تنبعث في دعة .. أنا داخل الفراش .. آه .. ياله من كابوس مقرف .. كان كابوسا إذن .. غادرت السرير متجها إلى الحمام .. قبلها ألقيت نظرة على الصور المعلقة في البهو .. ثم الساعة الحائطية التي تركها لي والدي .. كانت الساعة في حدود الخامسة فجرا.. من عادتي لا أتخم معدتي بالأكل ليلا ولا أشاهد برامج التلفاز المرعبة منها أو الهادئة ولا حتى برامج الأطفال .. وليس لي ارتباطات بأي عالم آخر غير عالمي الوديع الذي صنعته لنفسي .. لا عليّ .. جرس الباب يرن .. أسرعت لفتحه .. أكيد أنه بائع الحليب الذي يمر كل صباح ويترك لي حصتي من الحليب ..
لكن ماذا أرى؟ .. ماذا أرى ! لا.. لا.. لا..
ملحوظة : لغاية اليوم الذي نقرأ فيه هذه القصة لم يتسرب أي خبر عن نهاية السيد …….

26 ديسمبر 2000
إبراهيم رحمة
إبراهيم رحمة
أديب
أديب

ذكر
عدد الرسائل : 27
العمر : 54
العمل/الترفيه : مهندس معماري-خبير قضائي
تاريخ التسجيل : 16/06/2008

http://rahmaalgerie.maktoobblog.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى