الإلتبـــاس..
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
الإلتبـــاس..
بدأت الحياة تأخذ شكلا غريبا في هذا البيت .. وأظن أنه لم يعد في استطاعتي السكوت .. إن أمرا ما يحدث منذ ثلاث ليال ؛ في البداية ظننت أنني أحلم أو ربما قلت أهلوس هذا لو كنت أتعاطى أدوية معينة أو حبوبا .. بعض الهذر أو الهذيان لذا لم أنطق بكلمة واحدة .. في اليوم الأول صبرت .. والثاني والثالث .. القضية إذن ليست هلوسة أو .. أو .. أخاف أن أنطقها .. مجرد التفكير فيها يرعبني .. وأنا أرى أن الحياة فعلا قد بدأت تأخذ شكلا غريبا ..
الحجرة حيث فراشي هي هي .. والبهو على حاله .. أدخل الحمام فأجد فرشاة الأسنان والمعجون والمنشفة وحتى الحنفية .. كل شيء على حاله ؛ المرآة وصورتي في المرآة أيضا على حالها .. أصبحت أشك في كل شيء .. هي ليست لعبة وحتى إن كانت لعبة فهي لعبة مقيتة ؛ وأعود إلى المرآة مرة أخرى .. لم يتغير شيء في وجهي وأنظر إلى أرنبة أنفي ربما طرأ عليها طارئ وصماخ الأذن والجفون أتأمل تفاصيل تفاصيل الجفون .. كل شيء على حاله .. إذن ما هذا الذي يحدث ..
أنا متأكد مما في البيت لم يتغير فيه أدنى شيء .. أسرع وأنا كلي استبشار بهذه الحقيقة إلى النافذة المطلة على درب الصياغين .. إلا أنني أعود القهقرى مسرعا لا أصدق ما تراه عيناي ؛ أبدا ولن أصدق .. ثم لا ألبث أتراجع وأعود إلى مكاني قرب النافذة على رؤوس أصابعي مختلسا النظر كطفل يسترق النظر من خرم الباب يتطلع إلى شيء ما .. كان هذا في اليومين الأولين أما هذه الليلة .. اليوم الثالث .. فالأمر لا يطاق .. علي أن أواجه ما أرى .. والأكل في الثلاجة يتناقص .. ثم ماذا عن الوظيف .. غياب لمدة ثلاثة أيام دون مبرر قد يعرضني للفصل وضياع حقوقي في التأمين والتقاعد .. لا.. لا.. علي أن أفتح الباب وأخرج إلى هذا العالم .. لأرى ما يحدث ..
القصة بدأت قبل ثلاث ليال كما ذكرت .. عندما خرجت من الحمام صباحا قبل موعد الدوام واتجهت ناحية النافذة المطلة على درب الصياغين .. على ما جرت عليه العادة .. أنظر من النافذة أنادي على صبي الجار كي يسرع في لمح البصر ويشتري لي بعض الفطائر والفول – فطور الصباح – لكن هذه المرة لم أجد صبي الجار ؛ ولا منزل الجار بطوابقه وشرفاته ولا دكاكين الصياغين المتراصة وواجهاتها المصنوعة من الألومنيوم ولم أجد الأرصفة الإسمنتية ولا زفت الشوارع .. هذه المرة ليست ككل المرات .. لم أجد أيضا صاحب الفطائر الذي يجلس عند ناصية الشارع منذ سبعة وعشرين عاما .. منذ كان عمري ست سنوات .. لم أجده هو الآخر .. لم أسكر في حياتي ولم أتناول حبوبا كالتي يتعاطاها المدمنون على الحشيش .. عدت مسرعا إلى الحمام لأتطلع إلى المرآة الوحيدة في البيت .. لم يتغير شيء في وجهي .. لم يتغير شيء في الحمام ولا حتى في البهو .. أسرعت إلى حجرة نومي لم يتغير شيء .. أسرعت إلى غرفة جدتي – كانت تسكن معي قبل أن تلتحق بالرفيق الأعلى والتي لم أفتحها منذ تسع سنوات تاريخ رحيلها – أيضا لم يتغير شيء ..أعود إلى مكاني قرب النافذة .. نفس المنظر .. لا شوارع مزفتة ولا أرصفة إسمنتية ولا عمارة الجار ولا صاحب الفطائر.. ما الذي حدث بحق السماء ؛ ليس زلزالا أخفى المدينة وحتى إن كان من أثر زلزال ما أرى فلا بد أن يختفي كل شيء ثم لا بد أن أكون قد شعرت به .. وما علي الآن غير فتح باب البيت؛ علي أن أواجه هذا العالم الجديد .. وأعود إلى النافذة أتأكد .. هذه مدة ثلاثة أيام .. بنايات طينية متآكلة حلت محل العمارات الشاهقة وزقاق من حجارة مرصوفة حل محل الشارع المزفت العريض ثم هذه الدواب التي تجر العربات كيف حلت محل السيارات الفاخرة وأدهى من كل هذا منظر الناس بالجلابيب والسواري والنساء مغطيات الوجوه بالبراقع واللباس الأسود ؛وأسمع صوتا بدل صوت صاحب الفطائر ينادي ويضرب على دف بدائي ويرفع عقيرته : "يا أهالي هذه الديار الكريمة مولانا الحاكم الرشيد .. يدعوكم للفرجة على الزنادقة اللئام في سوق العصر .. يا أهالي هذه الديار …" ويتلاشى الصوت رويدا رويدا عبر المكان .. ياه .. لو لم يختف صاحب الفطائر والعمارات لظننت أن مهرجانا أو عيدا وطنيا قد حان ميعاده .. أو ربما حفلا تنكريا تدخله المدينة برمتها وليكن لأول مرة ..
وأقصد باب البيت لأول مرة منذ ثلاثة أيام .. أفتحه .. أخرج في حذر بالغ ؛ فيفاجئني أحدهم عند ناصية الشارع يشير ناحيتي ويرفع صوته : هاهو قد ظهر أخيرا .. كان منظره مقرفا بملابسه البالية وعمامته المتهالكة التي تكاد تهوي من على رأسه .. وأكمامه الكبيرة المتسخة .. كان يهرول ناحيتي وأحد رجليه عرجاء .. يستصرخ الناس : هو .. هو .. قد ظهر أخيرا .. هذا الزنديق .. قد ظهر أخيرا ..
استدرت بادئ الأمر حوالي لعله لا يقصدني لكنني لم أجد سواي في الركن الذي أقف فيه ؛ تراجعت إلى الوراء .. لم يكن غير الجدار خلفي .. وراح الناس يتجمعون ؛ ينظرون ناحيتي .. ثم ما لبثوا أن قبضوا علي وانهالوا علي ضربا حتى فقدت وعيي ..
فتحت عيني وأنا في حجرة رطبة باردة .. وبعض أنين يتناهى إلى سمعي – خلته بادئ الأمر صراصير أو حشرات تعبث في جو الحجرة .. ولم أتبين ذاك الذي يئن إلى جانبي لشدة الظلام المطبق على المكان ؛ وكان في وسعي أن أصرخ أو أستغيث وأطلب النجدة لكنني وجدت الأمر عبثا وغير مجد بالمرة فلو كانت النجدة قريبة مني لما وصلت إلى هذا المكان العفن الذي لا أعرف عنه شيئا .. ولم أجد غير الصمت ملاذا إنه أعنف وسيلة لطلب النجدة .. لا زال الأنين يتناهى إلي في خفوت ثم لا يلبث أن يتبدل إلى حشرجة تخرج في صعوبة وتصلني الكلمات متقطعة :
حتى أنت هنا .. كنا نظنك في منعة من قومك .. ولا قدرة للملك على إحضارك ..
ماذا أسمع .. المنعة ؛ القوم ؛ الملك ؛ ما هذا الهراء .. لو لم أر ما رأيت في الشارع لظننت أن في الأمر خدعة وأن بعض الزملاء السمجين قد تمادوا في تمثيل دور ليس هذا زمانه ..
إي ألا تريد أن تجيبني .. لا تخش شيئا فلن أقول شيئا لأنني لو قلت أو لم أقل ميت ميت .. الحكم صادر قبل أن أدخل إلى هذا المكان اللعين .. ولا تحاول أن تدافع عن نفسك .. لن يسمعك أحد .. أعوان الملك يفعلون ما يؤمرون ..
ماذا تقول يا هذا .. من أنت وأين أنا .. وعن أي ملك تتكلم ؟
حتى الملك تنكره .. لم أكن أظن أنك بهذا الخوف وهذا الجبن .. يعرفك الناس قويا فكيف تسلل كل هذا الضعف والهوان إلى قلبك.. أتحسب أن كافور يسامحك .. بل أنت أعز من أن تطلب العفو من كافور هذا..
كافور عن أي كافور تتكلم .. كافور مات منذ ألف عام .. وأنت تريد أن تلفق لي تهمة أنت مدسوس علي .. أريد محامي .. أريد أن أخرج من هنا .. وأدور في المكان .. أدور .. أدور والمكان رغم ضيقه كأنه المدى .. وأصرخ أخرجوني من هنا .. أخرجوني من هنا ..
غير أن قوتي لا تلبث أن تخور .. وأتثاقل إلى الأرض متهالكا .. والأنين يحشرج دون أن تبدو عليه المبالاة : مسكين .. أيها القطب الأعظم .. هكذا تتهاوى قبل أن تلج النور ..
أسمع صريرا ربما يكون من جهة الباب .. أخيرا يمتد نور شمعدان داخل الكوة التي أقف فيها .. يدخل رجلان في أيديهما رماح؛ يقتادانني .. وألمح عند خروجي جسد الذي يئن وكله جراح وعظامه بارزة حتى لا تكاد تحفظ لوجهه ملامح .
أنت إذن الذي تحرض الرعية علينا .. وتخرج كل يوم بطريقة جديدة .. تريد هدم مملكتنا ..
تكلم أيها اللعين إذا كلمك الملك .. إنك في حضرة كافور الإخشيدي عظيم الأرض..
ويلكزني بعقب رمحه هذا الجندي الواقف خلفي وهو يأمرني بالتكلم .. وماذا أقول ..
حسنا لا تريد التكلم .. أيها الحرس وأنت أيها الحاجب خذوه إلى بيته ولا تدعوه حتى يكشف لكم عن مكان سره اللعين ..
ويجرجرني الجند .. دون أن أنطق بكلمة .. ودون أن يدع لي أيا كان الفرصة حتى أعرف مكاني .. وأين أكون .. وشد ما أتعبني تذكر المكان .. شرفات من طين وخشب ومشربيات بعض نسوة يطللن منها وأزقة متربة ومبان متآكلة .. ولم أقابل في طريقي سيارة واحدة كل ما لقيت بعض الحمير أو الأحصنة وحتى رئيس الجند والذي ينادونه حاجبا يركبان فرسين .. أنا في عالم غير عالمي .. آه البيت أخيرا .. ربما أفلت منهم إذا ما دخلته ..
هيا أيها الزنديق - ودفعني أحدهم ناحية البيت – افتح الباب ..
رحت أفتح الباب .. ودخلت البيت .. ثم أغلقته بإحكام دون أن يتمكن أحد هم من فتحه .. وعدت إلى بيتي الصغير .. الساعة أمامي في مكانها .. إنها السابعة وثلاث دقائق صباحا .. أسرعت إلى اليومية .. الرابع من شهر يناير عام ألفين وواحد .. إنها بداية الألفية الثالثة إذن .. ثم استدرت ناحية باب البيت .. ما الذي يحدث .. انتابتني رغبة للحظات في فتح الباب .. غير أنني تراجعت في رعب شديد .. لا أريد تكرار ما رأيت .. لن أخرج من البيت مطلقا حتى أموت .. أجل لن أخرج أبدا من هنا ..
وتعود الأصوات : اكسروا الباب .. حتى نرى ما يحدث في الداخل .. هيا اكسروا الباب..
ترتعد فرائسي أعود إلى الوراء حتى أحس بالجدار خلفي .. إنها النهاية .. ينكسر الباب .. تدفع دفته بقوة .. ويدخل بعض الرجال .. فأسقط فاقدا للوعي ..
انهض يا رجل .. ما الذي أصابك .. أفتح عيني في بطء شديد كأنني أهرب ممن حولي .. وكان رذاذ عطر باريسي – أظن في تلك اللحظة أنه باريسي – يتساقط على وجهي .. ولمحت الذين أمامي .. رجال الحماية المدنية .. أجل إنهم هم .. فركت عيني .. قمت من مكاني .. رحت أتأملهم واحدا واحدا .. أجل إنهم رجال الحماية المدنية بشاراتهم وألبستهم المميزة .. عدت أخيرا إلى البيت .. عدت إلى عالمي إذن ..
لقد قلقنا عليك يا رجل .. الجيران قلقوا عليك .. هذه ثلاثة أيام لا حس ولا خبر ..
تبقى أصواتهم تتردد في فضاء البيت ويبقى سؤال واحد يحيرني ..
هل أحكي لهم ما رأيت .. هل أحكي؟..
ملحوظة : قبل ألف عام – عند بداية الألفية الثانية – تناقل الناس خبر اختفاء المسمى أبو العربي وهو محاصر في داره من قبل الجند.
06 جانفي 2001
الحجرة حيث فراشي هي هي .. والبهو على حاله .. أدخل الحمام فأجد فرشاة الأسنان والمعجون والمنشفة وحتى الحنفية .. كل شيء على حاله ؛ المرآة وصورتي في المرآة أيضا على حالها .. أصبحت أشك في كل شيء .. هي ليست لعبة وحتى إن كانت لعبة فهي لعبة مقيتة ؛ وأعود إلى المرآة مرة أخرى .. لم يتغير شيء في وجهي وأنظر إلى أرنبة أنفي ربما طرأ عليها طارئ وصماخ الأذن والجفون أتأمل تفاصيل تفاصيل الجفون .. كل شيء على حاله .. إذن ما هذا الذي يحدث ..
أنا متأكد مما في البيت لم يتغير فيه أدنى شيء .. أسرع وأنا كلي استبشار بهذه الحقيقة إلى النافذة المطلة على درب الصياغين .. إلا أنني أعود القهقرى مسرعا لا أصدق ما تراه عيناي ؛ أبدا ولن أصدق .. ثم لا ألبث أتراجع وأعود إلى مكاني قرب النافذة على رؤوس أصابعي مختلسا النظر كطفل يسترق النظر من خرم الباب يتطلع إلى شيء ما .. كان هذا في اليومين الأولين أما هذه الليلة .. اليوم الثالث .. فالأمر لا يطاق .. علي أن أواجه ما أرى .. والأكل في الثلاجة يتناقص .. ثم ماذا عن الوظيف .. غياب لمدة ثلاثة أيام دون مبرر قد يعرضني للفصل وضياع حقوقي في التأمين والتقاعد .. لا.. لا.. علي أن أفتح الباب وأخرج إلى هذا العالم .. لأرى ما يحدث ..
القصة بدأت قبل ثلاث ليال كما ذكرت .. عندما خرجت من الحمام صباحا قبل موعد الدوام واتجهت ناحية النافذة المطلة على درب الصياغين .. على ما جرت عليه العادة .. أنظر من النافذة أنادي على صبي الجار كي يسرع في لمح البصر ويشتري لي بعض الفطائر والفول – فطور الصباح – لكن هذه المرة لم أجد صبي الجار ؛ ولا منزل الجار بطوابقه وشرفاته ولا دكاكين الصياغين المتراصة وواجهاتها المصنوعة من الألومنيوم ولم أجد الأرصفة الإسمنتية ولا زفت الشوارع .. هذه المرة ليست ككل المرات .. لم أجد أيضا صاحب الفطائر الذي يجلس عند ناصية الشارع منذ سبعة وعشرين عاما .. منذ كان عمري ست سنوات .. لم أجده هو الآخر .. لم أسكر في حياتي ولم أتناول حبوبا كالتي يتعاطاها المدمنون على الحشيش .. عدت مسرعا إلى الحمام لأتطلع إلى المرآة الوحيدة في البيت .. لم يتغير شيء في وجهي .. لم يتغير شيء في الحمام ولا حتى في البهو .. أسرعت إلى حجرة نومي لم يتغير شيء .. أسرعت إلى غرفة جدتي – كانت تسكن معي قبل أن تلتحق بالرفيق الأعلى والتي لم أفتحها منذ تسع سنوات تاريخ رحيلها – أيضا لم يتغير شيء ..أعود إلى مكاني قرب النافذة .. نفس المنظر .. لا شوارع مزفتة ولا أرصفة إسمنتية ولا عمارة الجار ولا صاحب الفطائر.. ما الذي حدث بحق السماء ؛ ليس زلزالا أخفى المدينة وحتى إن كان من أثر زلزال ما أرى فلا بد أن يختفي كل شيء ثم لا بد أن أكون قد شعرت به .. وما علي الآن غير فتح باب البيت؛ علي أن أواجه هذا العالم الجديد .. وأعود إلى النافذة أتأكد .. هذه مدة ثلاثة أيام .. بنايات طينية متآكلة حلت محل العمارات الشاهقة وزقاق من حجارة مرصوفة حل محل الشارع المزفت العريض ثم هذه الدواب التي تجر العربات كيف حلت محل السيارات الفاخرة وأدهى من كل هذا منظر الناس بالجلابيب والسواري والنساء مغطيات الوجوه بالبراقع واللباس الأسود ؛وأسمع صوتا بدل صوت صاحب الفطائر ينادي ويضرب على دف بدائي ويرفع عقيرته : "يا أهالي هذه الديار الكريمة مولانا الحاكم الرشيد .. يدعوكم للفرجة على الزنادقة اللئام في سوق العصر .. يا أهالي هذه الديار …" ويتلاشى الصوت رويدا رويدا عبر المكان .. ياه .. لو لم يختف صاحب الفطائر والعمارات لظننت أن مهرجانا أو عيدا وطنيا قد حان ميعاده .. أو ربما حفلا تنكريا تدخله المدينة برمتها وليكن لأول مرة ..
وأقصد باب البيت لأول مرة منذ ثلاثة أيام .. أفتحه .. أخرج في حذر بالغ ؛ فيفاجئني أحدهم عند ناصية الشارع يشير ناحيتي ويرفع صوته : هاهو قد ظهر أخيرا .. كان منظره مقرفا بملابسه البالية وعمامته المتهالكة التي تكاد تهوي من على رأسه .. وأكمامه الكبيرة المتسخة .. كان يهرول ناحيتي وأحد رجليه عرجاء .. يستصرخ الناس : هو .. هو .. قد ظهر أخيرا .. هذا الزنديق .. قد ظهر أخيرا ..
استدرت بادئ الأمر حوالي لعله لا يقصدني لكنني لم أجد سواي في الركن الذي أقف فيه ؛ تراجعت إلى الوراء .. لم يكن غير الجدار خلفي .. وراح الناس يتجمعون ؛ ينظرون ناحيتي .. ثم ما لبثوا أن قبضوا علي وانهالوا علي ضربا حتى فقدت وعيي ..
فتحت عيني وأنا في حجرة رطبة باردة .. وبعض أنين يتناهى إلى سمعي – خلته بادئ الأمر صراصير أو حشرات تعبث في جو الحجرة .. ولم أتبين ذاك الذي يئن إلى جانبي لشدة الظلام المطبق على المكان ؛ وكان في وسعي أن أصرخ أو أستغيث وأطلب النجدة لكنني وجدت الأمر عبثا وغير مجد بالمرة فلو كانت النجدة قريبة مني لما وصلت إلى هذا المكان العفن الذي لا أعرف عنه شيئا .. ولم أجد غير الصمت ملاذا إنه أعنف وسيلة لطلب النجدة .. لا زال الأنين يتناهى إلي في خفوت ثم لا يلبث أن يتبدل إلى حشرجة تخرج في صعوبة وتصلني الكلمات متقطعة :
حتى أنت هنا .. كنا نظنك في منعة من قومك .. ولا قدرة للملك على إحضارك ..
ماذا أسمع .. المنعة ؛ القوم ؛ الملك ؛ ما هذا الهراء .. لو لم أر ما رأيت في الشارع لظننت أن في الأمر خدعة وأن بعض الزملاء السمجين قد تمادوا في تمثيل دور ليس هذا زمانه ..
إي ألا تريد أن تجيبني .. لا تخش شيئا فلن أقول شيئا لأنني لو قلت أو لم أقل ميت ميت .. الحكم صادر قبل أن أدخل إلى هذا المكان اللعين .. ولا تحاول أن تدافع عن نفسك .. لن يسمعك أحد .. أعوان الملك يفعلون ما يؤمرون ..
ماذا تقول يا هذا .. من أنت وأين أنا .. وعن أي ملك تتكلم ؟
حتى الملك تنكره .. لم أكن أظن أنك بهذا الخوف وهذا الجبن .. يعرفك الناس قويا فكيف تسلل كل هذا الضعف والهوان إلى قلبك.. أتحسب أن كافور يسامحك .. بل أنت أعز من أن تطلب العفو من كافور هذا..
كافور عن أي كافور تتكلم .. كافور مات منذ ألف عام .. وأنت تريد أن تلفق لي تهمة أنت مدسوس علي .. أريد محامي .. أريد أن أخرج من هنا .. وأدور في المكان .. أدور .. أدور والمكان رغم ضيقه كأنه المدى .. وأصرخ أخرجوني من هنا .. أخرجوني من هنا ..
غير أن قوتي لا تلبث أن تخور .. وأتثاقل إلى الأرض متهالكا .. والأنين يحشرج دون أن تبدو عليه المبالاة : مسكين .. أيها القطب الأعظم .. هكذا تتهاوى قبل أن تلج النور ..
أسمع صريرا ربما يكون من جهة الباب .. أخيرا يمتد نور شمعدان داخل الكوة التي أقف فيها .. يدخل رجلان في أيديهما رماح؛ يقتادانني .. وألمح عند خروجي جسد الذي يئن وكله جراح وعظامه بارزة حتى لا تكاد تحفظ لوجهه ملامح .
أنت إذن الذي تحرض الرعية علينا .. وتخرج كل يوم بطريقة جديدة .. تريد هدم مملكتنا ..
تكلم أيها اللعين إذا كلمك الملك .. إنك في حضرة كافور الإخشيدي عظيم الأرض..
ويلكزني بعقب رمحه هذا الجندي الواقف خلفي وهو يأمرني بالتكلم .. وماذا أقول ..
حسنا لا تريد التكلم .. أيها الحرس وأنت أيها الحاجب خذوه إلى بيته ولا تدعوه حتى يكشف لكم عن مكان سره اللعين ..
ويجرجرني الجند .. دون أن أنطق بكلمة .. ودون أن يدع لي أيا كان الفرصة حتى أعرف مكاني .. وأين أكون .. وشد ما أتعبني تذكر المكان .. شرفات من طين وخشب ومشربيات بعض نسوة يطللن منها وأزقة متربة ومبان متآكلة .. ولم أقابل في طريقي سيارة واحدة كل ما لقيت بعض الحمير أو الأحصنة وحتى رئيس الجند والذي ينادونه حاجبا يركبان فرسين .. أنا في عالم غير عالمي .. آه البيت أخيرا .. ربما أفلت منهم إذا ما دخلته ..
هيا أيها الزنديق - ودفعني أحدهم ناحية البيت – افتح الباب ..
رحت أفتح الباب .. ودخلت البيت .. ثم أغلقته بإحكام دون أن يتمكن أحد هم من فتحه .. وعدت إلى بيتي الصغير .. الساعة أمامي في مكانها .. إنها السابعة وثلاث دقائق صباحا .. أسرعت إلى اليومية .. الرابع من شهر يناير عام ألفين وواحد .. إنها بداية الألفية الثالثة إذن .. ثم استدرت ناحية باب البيت .. ما الذي يحدث .. انتابتني رغبة للحظات في فتح الباب .. غير أنني تراجعت في رعب شديد .. لا أريد تكرار ما رأيت .. لن أخرج من البيت مطلقا حتى أموت .. أجل لن أخرج أبدا من هنا ..
وتعود الأصوات : اكسروا الباب .. حتى نرى ما يحدث في الداخل .. هيا اكسروا الباب..
ترتعد فرائسي أعود إلى الوراء حتى أحس بالجدار خلفي .. إنها النهاية .. ينكسر الباب .. تدفع دفته بقوة .. ويدخل بعض الرجال .. فأسقط فاقدا للوعي ..
انهض يا رجل .. ما الذي أصابك .. أفتح عيني في بطء شديد كأنني أهرب ممن حولي .. وكان رذاذ عطر باريسي – أظن في تلك اللحظة أنه باريسي – يتساقط على وجهي .. ولمحت الذين أمامي .. رجال الحماية المدنية .. أجل إنهم هم .. فركت عيني .. قمت من مكاني .. رحت أتأملهم واحدا واحدا .. أجل إنهم رجال الحماية المدنية بشاراتهم وألبستهم المميزة .. عدت أخيرا إلى البيت .. عدت إلى عالمي إذن ..
لقد قلقنا عليك يا رجل .. الجيران قلقوا عليك .. هذه ثلاثة أيام لا حس ولا خبر ..
تبقى أصواتهم تتردد في فضاء البيت ويبقى سؤال واحد يحيرني ..
هل أحكي لهم ما رأيت .. هل أحكي؟..
ملحوظة : قبل ألف عام – عند بداية الألفية الثانية – تناقل الناس خبر اختفاء المسمى أبو العربي وهو محاصر في داره من قبل الجند.
06 جانفي 2001
رد: الإلتبـــاس..
عزيزي ابراهيم رحمة
منذ اللحظات الأولى لقراءة هذه القصة كانت النهاية
امامي مطروحة ؟؟؟؟
ربما لتكرار الحدث والحبكة في عدد من الأعمال
القصصية مع الإختلاف في التفاصيل ؟؟؟؟
الجانب الثاني من هذا النص وهو الفوبيا
الداخلية لصراع الإنسان الضاري بينه و
بين الماضي والحاضر والإغتراب الذي
وصل إليه , إنها فوبيا من نوع خاص ؟؟؟
والحلم حتى في الغيبوبة مجرد رد فعل لما
نعانيه في اللاّوعي من معاناة وقمع وإحساس
بالخوف الذي يرافق حياة الأفراد في مجتمع
كل ملامحه التكوينية مبنية على الإرهاب
والقمع والترهيب ؟؟؟
إن الكابوس أو الفوبيا الداخلية كما يطرحها
موضوع هذه القصة رغم أنني لا أرى هنا
التباسا لأن ما يطرحه النص هو حالة نفسية
لواقع يحمل في طياته تراجيديا سوداء
وبالتالي تنعكس على العقلية الإنسانية
بمزيد من الضغط الذي يولّد هذه الحالة
والنتيجة التي امامنا ؟؟؟
والنص بما يحمل من إسقاطات لها دلالتها
في واقعنا الحالي يحمل ضوءا في حلكة الوقت!!!!
مع المحبة
منذ اللحظات الأولى لقراءة هذه القصة كانت النهاية
امامي مطروحة ؟؟؟؟
ربما لتكرار الحدث والحبكة في عدد من الأعمال
القصصية مع الإختلاف في التفاصيل ؟؟؟؟
الجانب الثاني من هذا النص وهو الفوبيا
الداخلية لصراع الإنسان الضاري بينه و
بين الماضي والحاضر والإغتراب الذي
وصل إليه , إنها فوبيا من نوع خاص ؟؟؟
والحلم حتى في الغيبوبة مجرد رد فعل لما
نعانيه في اللاّوعي من معاناة وقمع وإحساس
بالخوف الذي يرافق حياة الأفراد في مجتمع
كل ملامحه التكوينية مبنية على الإرهاب
والقمع والترهيب ؟؟؟
إن الكابوس أو الفوبيا الداخلية كما يطرحها
موضوع هذه القصة رغم أنني لا أرى هنا
التباسا لأن ما يطرحه النص هو حالة نفسية
لواقع يحمل في طياته تراجيديا سوداء
وبالتالي تنعكس على العقلية الإنسانية
بمزيد من الضغط الذي يولّد هذه الحالة
والنتيجة التي امامنا ؟؟؟
والنص بما يحمل من إسقاطات لها دلالتها
في واقعنا الحالي يحمل ضوءا في حلكة الوقت!!!!
مع المحبة
ماماس- شــاعرة
-
عدد الرسائل : 8
تاريخ التسجيل : 25/06/2008
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى