من طرف اسحق قومي السبت مايو 01, 2010 2:18 am
|
سعيد عقل شاعراً... رغماً عن الأوهام السياسية: عبده وازن
|
|
سعيد عقل |
عبده وازن
لم يحظ سعيد عقل الذي غالباً ما يسمى «شاعر لبنان»، بما حظي به بعض شعراء النهضة الثانية والحداثة بالتالي، من اهتمام نقدي وقراءات أو مقاربات يستحقها حتماً أسوة بهؤلاء الشعراء الذين جايلوه أو أعقبوه. فالكتب التي تناولت شعره قليلة جداً نظراً الى حجمه الشعري والى الموقع المتقدم الذي يحتله في مسار الشعر العربي المعاصر. وقد غلبت على هذه الكتب القليلة، النزعة الانطباعية والحماسة، لا سيما أن أصحابها هم إما ينتمون الى «مدرسة» سعيد عقل الشعرية أو الى «مدرسته» السياسية أو «اللبنانوية». وقد يكون كتابا الناقدين اللبنانيين مناف منصور وجورج زكي الحاج، هما الوحيدان اللذان حاولا تلمّس خصائص هذا الشاعر وإيفاءه بعضاً من حقه، لكنهما ظلا ناقصين وغير كافيين. مناف منصور جعل من شعر عقل ذريعة لترسيخ عمله على الأدب المقارن فعمد الى المقارنة بينه وبين الشاعر الفرنسي الكبير بول فاليري، ولم يوفق كثيراً في هذه المقارنة تبعاً للاختلاف الجوهري بين هذين الشاعرين أولاً، ثم لعدم قدرة سعيد عقل على موازاة تجربة هذا الشاعر الذي كان فيلسوفاً أيضاً. ولم يكن كافياً اعتماد «نظريات» سعيد مرجعاً كافياً لمقارنته بهذا الشاعر الذي ما زال يشغل النقاد الفرنسيين بعد عقود على رحيله. أما كتاب جورج زكي الحاج وعنوانه «الفرح في شعر سعيد عقل» فهو عمل انطباعي، وليس نقدياً صرفاً، لافتقاره الى العمق والمنهج الصارم والتأويل، علماً أنه كان في الأصل رسالة دكتوراه، وبدا فيه صاحبه كأنه مريد يكتب عن معلمه.
هذا الفقر في الحقل النقدي لأعمال سعيد عقل، الشاعر الأشد شهرة في لبنان، استطاعت أن تتخطاه مبدئياً، الناقدة هند أديب في كتابها «شعرية سعيد عقل» (دار الفارابي)، 2010، وهو كان أصلاً رسالة دكتوراه في الأدب العربي. قد يكون هذا الكتاب أول مدخل نقدي، منهجي وشامل، لقراءة مسار سعيد عقل من خلال أعماله الإبداعية وبعض نظرياته. وقد أضفى الطابع الأكاديمي، لا سيما الإحصائي، على هذا الكتاب مواصفات العمل النقدي الصارم، النابع من صميم الإبداع الشعري، عطفاً على سعي الناقدة الى ترسيخ مسار الشاعر في سياقه التاريخي والأيديولوجي أو السياسي. وهكذا كان لا بد من أن تنطلق الناقدة من حال الخلاف حول سعيد عقل، وهو خلاف سياسي أكثر منه خلافاً شعرياً. فالشاعر الذي دفعت به غلواؤه اللبنانية عشية الحرب الأهلية الى دعوة اللبنانيين الى قتل الفلسطينيين قائلاً: «على كل لبناني أن يقتل فلسطينياً»، أثار نقمة القراء العرب عليه ونقمة القراء اللبنانيين أنفسهم، سواء الذين كانوا في الخندق اليساري والعروبي أم الذين كانوا على الحياد. ويذكر الكثيرون كيف كتب الشاعر الفلسطيني معين بسيسو الى الشاعر أنسي الحاج عندما منحه سعيد عقل جائزته الشهيرة في العام 1975، داعياً إياه الى رفضها، لأنها جائزة الحقد والكراهية.
دفع سعيد عقل غالياً وغالياً جداً ثمن تعصّبه «اللبنانوني» وتعنّته السياسي، وهو كان دعا قبيل الحرب الى تبنّي اللغة العامية والى الكتابة بالحرف اللاتيني تنصّلاً من الانتماء العربي كما عبّر مراراً، غير آبه بما قد يجر عليه هذا الموقف من عداوة وبغضاء. لكن دعوتيه هاتين لم تلقيا رواجاً إلا عند بضعة من المريدين الذين كانوا يعدّونه بمثابة «المعلّم». ولم تنجُ قراءة سعيد عقل الشاعر من هذه «الصبغة» السياسية، فانعكست سلباً على شعره المكتوب بالعربية، فرفضه دعاة العروبة وغلاة اللغة العربية لكنهم لم يستطيعوا أن ينكروا عليه عبقريته اللغوية العربية ولا تضلّعه من لغة الضاد وإحساسه الفريد بها وبفصاحتها وبيانها.
ومن يستعدْ مواقف سعيد عقل السياسية التي أوقعته في شرك «الشوفينية» والعصبية والانغلاق أو الانعزال، يدرك كم ان الشاعر خبّط في وحول السياسة والخرافة اللبنانية، وكم ارتكب من أخطاء جسام كان في غنى عنها. إلا أن ما غفر - ويغفر - له هذه الأخطاء، شعريته الكبيرة المتجلية في صميم اللغة العربية، قبل أن تتحقق في بعض الشعر العامي الذي كتبه مبكراً. فهو شاعر عربي، متفرّد بنفسه، حتى ليعصى على التصنيف: كلاسيكي ونيوكلاسيكي، رمزي وبرناسي في آن واحد، رومنطيقي ولكن على طريقته، غنائي بلا جرح ولا ألم، محافظ ومجدد، حديث كما يحلو له أن يكون... سعيد عقل هو كل هؤلاء وليس هو إياهم. إنه نسيج وحده، كما يقال، صنيع مدرسته الجمالية، التي كان هو فيها المعلّم والمريد. «وحده سعيد عقل لم يتبشع» قال فيه مرة أنسي الحاج وقصده أن سعيد عقل لم يدخل عصر الحداثة. أما أدونيس فحصر دوره في «تنقية اللغة الشعرية» كما عبّر في «مقدمة للشعر العربي»، وأدرجه في خانة «الرومنطيقية الشكلية». وأعاده يوسف الخال الى رومنطيقية القرن التاسع عشر الفرنسي المصبوغة بالرمزية، وتردد كمال خير بك في تعيين موقعه بين الرومنطيقية والرمزية.
شاعر الطمأنينة
غير أن سعيد عقل ليس رومنطيقياً صرفاً إذا قرئ شعره على ضوء الشعر الرومنطيقي الفرنسي أو الإنكليزي أو الألماني، أو إذا قورن عربياً بشعر الياس أبو شبكة الرومنطيقي الفذ أو علي محمود طه «الملاح التائه». وليس سعيد عقل رمزياً صرفاً إذا قوبل بشعراء من أمثال بودلير أو فاليري أو ريلكه أو حتى بشر فارس رائد الرمزية العربية. وهو ليس أيضاً برناسياً صرفاً إذا قورن بشعراء «البارناس» الفرنسيين أو بأمين نخلة البرناسي العربي بامتياز. أما حداثته فهي حداثة ما قبل الحداثة، حداثة الشكل الكلاسيكي والنظام الإيقاعي المضبوط والصورة الشعرية والمجاز وقد أشعل فيها نار التحديث الشكلي. سعيد عقل هو شاعر العظمة أيضاً وشاعر المجد أو «السؤدد» بحسب تعبيره، وشاعر الحبور، شاعر الطمأنينة والهناءة والخلاص والرضا والسكون والنرجسية الطفولية.
لا قلق في شعر سعيد عقل ولا مكابدة ولا سويداء ولا عدم ولا «خلق من عدم» كما عبّر مالارمه. «العدم هو الشر» يقول سعيد عقل، والحب هو النقاء والبراءة والعفة والبعاد. الحب وهم وتخيل وتهويم، وإذا احتدم فهو قبلة عذراء، وإذا تأجج فهو الرغبة الناقصة، الرغبة التي ترفض أن تكتمل. أما الصدر فهو صدر الأم دوماً، بنقائه وبراءته. ولا غرابة في أن تكون المرأة في شعره كائناً من رخام، ناصع وبارق، وأن يركع أمامها ركوع الذليل كما قال: «أحبك في ذلة الراكع». إنها المرأة البعيدة دوماً التي لا يودّها أن تقترب ولا يود أن تلمسها يده: «هِمْ لا تقرّب يدا / هِمْ بالنظر/ أبقى الأثر/ ما لم يزل موصدا». فشاعر الغبطة يكتفي بما يتيحه النظر عن بعدٍ، وشاعر التفاؤل يرفض أن يقع في الحب المأسوي، والتأوه والبكاء ليسا من شواغله. يظل الحب لدى سعيد عقل حباً مطلقاً، أو حباً سامياً، فالحب قيمة وليس تجربة، إنه مثيل الشرف والكرامة والفضيلة والطهر. حتى العري لديه خفر وانغلاق وليس انكشافاً. ومثلما لا وهن ولا ضعف أو ركاكة في شعره وفي لغته، لا وهن أيضاً ولا ضعف أو إحباط في سريرته أو دخيلته. شاعر أبولوني، مفتون بالجمال السامي، لا يصغي الى فحيح «الأفعى» السرية التي تحدّث عنها إلياس أبو شبكة، ويمقت حال اللعنة التي تخبّط فيها الشعراء الملعونون وفي مقدمهم بودلير. ويتناوب في شعره، كما تعبّر الناقدة هند أديب، القرب والبعد، الرغبة والعبادة، ويصبو لديه المحدود الى اللامحدود، والمتناهي الى اللامتناهي. إنه فعل التناوب وليس فعل الصراع، فلا نزعة مأسوية في شعر سعيد عقل.
تبحر هند أديب في شعرية سعيد عقل معتمدة أكثر من منهج، والبارز هو المنهج الإحصائي الذي رسخته الناقدة الفرنسية مونيك باران. والفعل الإحصائي هذا أتاح لها الفرصة لتتعمق في معجمه وسمح لها بدوره أن تحلل حقوله الدلالية وإشاراته بدقة، وتتوقف عند علاقاته الظاهرة والخفية أو المضمرة. ولعلها الناقدة الوحيدة التي نجحت في رصد معالم شعرية سعيد عقل وفي إلقاء ضوء على أسرار صنيعه وعلى تقنيته المعقدة. وقد كشفت عياناً الطاقة الخلاقة التي يتمتع بها شاعر «رندلى» والمتمثلة في جمالياته، صوراً ومجازات واستعارات ولعباً بالأوزان والبحور. وركزت على مفهوم «العمارة» الشعرية التي انتهجها الشاعر والتي لا تخلو من ابتكار وفرادة. وفي رأيها أن الشاعر لم يدمّر نظام العروض ولم يخلّ به بل «طوّره وطوّعه ببراعة إيقاعية ومرونة نغمية»، وأعمل قلمه في البحور والقوافي متلاعباً بها، ومائلاً الى البحور القصيرة، مازجاً بين ايقاعات مختلفة في القصيدة الواحدة. واستخدم عقل التفعيلة بوصفها وحدة إيقاعية مستقلة، على غرار ما فعل لاحقاً شعراء القصيدة الحرة، ممهداً بهذه الخطوة للشعر الحديث أو الحر إيقاعياً. ولم يتوان سعيد عقل عن الكرّ والفرّ شعرياً متنقلاً بين النظام العروضي الجديد والنظام التقليدي. وكان يكتب الشعر كما يحسن له عمودياً صارماً وحراً متحرراً من قيود البيت.
تخلص الناقدة الى أن الشعر لدى سعيد عقل صورة وإيقاع. وقد أكثر من فنون البديع والبيان والبلاغة كالتشبيه والاستعارة والكناية والمجاز المرسل. وقد وفّق في صوره الشعرية بين المجرّد والمحسوس، بين الحميم والكوني، بين المادي والروحي. لكنه طبعاً لم يلجأ الى حيلة «الانزياح» الشهيرة التي استنبطها الناقد الفرنسي جان كوهين من صميم الشعر الحديث. أما اللغة فلم تكن بين يدي سعيد عقل مادة من طين أو تراب، بل كانت مادة صلبة شرع ينقشها ويصقلها، كانت بالأحرى حجراً كريماً راح ينقشه نقش الصائغ، مسقطاً ما نبا منه ومبقياً على الجوهر أو الخلاصة. سعيد عقل نحات في رخام الكلمات، خفيف اليد، رشيق وصانع ماهر، يلمّع القصيدة حتى لتغدو كالمرآة شديدة النقاء لا تصيبها غضون أو شآبيب.
قد يكون كتاب هند درويش خير مدخل الى قراءة «شعرية» سعيد عقل، في ما تحمل «الشعرية» من معان وأبعاد. إنها قراءة في الشكل كما في الفضاء الشعري، كما في المعنى أو المضمون الذي يقول فاليري عنه إنه الشكل قبل أن يُصفّى، وقد انطلقت الناقدة من الشعر نفسه وما يتيح من معطيات هي المادة الأولى للعمل النقدي. وقد يكون كتابها «التأسيسي» فاتحة قراءات لا بد من أن تنطلق منه لتمعن في كشف أسرار صاحب «قدموس» الشعرية. طبعاً هناك نواح لم تكشفها وهناك أيضاً خصائص جمة لم تعمد الى إبرازها، ولعلها أصلاً ترسّمت حدود هذا البحث الرصين لئلا تقع في التبدد والتبعثر. ولا بد هنا من الإشارة الى المقارنة المستهجنة التي عقدتها بين «كتاب الورد» وهو أحد كتب سعيد عقل النثرية، وكتاب «سأم باريس» للشاعر الفرنسي بودلير. فالمقارنة لا يمكنها أن تقوم هنا، بين كتاب ينتمي الى ما يُسمى «النثر الفني» (لا أكثر ولا أقل) وكتاب كان بمثابة اللبنة الرئيسة لقصيدة النثر الفرنسية والعالمية. وقد يبدو نثر سعيد عقل في هذا الكتاب ضرباً من النثر الإنشائي المنمّق الذي يستحيل الجمع بينه وبين كتاب بودلير المفعم بالنزق واللعنة.
أما أن تدرج الناقدة «الخماسيات» التي كتبها سعيد عقل، في مرحلة «النضج» كما تعبّر، فهذا أمر لا يخلو من إساءة - غير مقصودة طبعاً - الى شعرية صاحب «المجدلية». وإن كانت هذه «الخماسيات» تمثل مرحلة ما من مراحل الشاعر، فهي تمثل مرحلة الاصطناع الشعري والتكلّف، وليس مرحلة النضج. ففي هذه «الخماسيات» ينصرف الشاعر الى الصناعة فقط، الصناعة المصطنعة، الخالية من الرهافة والمرونة اللتين طالما عرف بهما في «رندلى» أو «أجراس الياسمين» أو «دلزى».
يبقى أن الناقدة هند أديب أنصفت الشاعر سعيد عقل وأعادت إليه بعضاً من حق هو جدير به، وأعادته أيضاً الى «المحك» النقدي الذي لا يقوم شعر، بعيداً منه.(الحياه)
01 مايو 2010 |
|
|