إسحق قومي
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

" تحولات.. "

3 مشترك

اذهب الى الأسفل

" تحولات.. " Empty " تحولات.. "

مُساهمة من طرف إبراهيم رحمة الإثنين يونيو 16, 2008 6:12 pm

اليوم .. مرة أخرى أشعر بهذا المتسلل كالغريب الغازي ..
رميت المنشفة جانبا .. بعدما ألقيت نظرة أخيرة على المرآة .. تسريحة شعري كالعادة رائعة وخدي أملس يجلب الإنتباه .. لا تجاعيد عليه ولا أدنى تأثير للزمن .. هندامي أنيق وكنزتي الصوفية تزيدني أناقة .. " كل شيء على ما يرام " أسررت في نفسي ثم قصدت مائدة الفطور رفعت فنجان القهوة وأنا واقف بيد والجريدة باليد الأخرى .. قالت الخادمة العجوز – مربيتي – :
- دع القهوة يا ولدي وافطر .. إن الفطور الدسم يزيدك قوة ونضارة ..
ولا أجيبها .. من عادتي أرتشف بعض القهوة على عجل وأنا أتصفح عناوين الجريدة ولا أهتم للمائدة المكتظة بأصناف الفطائر والحلويات والحليب الطازج .. يجلبه البواب خصيصا لي كل صباح من مزرعة العم أحمد ..لكنني أتركه – ربما يعتبرها إهانة من حيث أنني لا أُقدّر مجهوده ولو مجاملة – وأغادر المنزل قاصدا مكتبي في ميدان الشهداء أكبر ميادين المدينة .. أجد الموظفين في انتظاري يقفون لتحيتي منتبهين لأدق تفاصيل أزيائهم .. ثم أعرج على السكرتيرة ؛ تومئ لي بالتحية في انسجام بالغ وتتبعني إلى المكتب ؛ تضع بعض الملفات ؛ تريني البريد الوارد ؛ تقول لي – ربما تحب لَفْت نظري لنشاطها المهني – أنها أنجزت كل الأعمال التي كلّفتُها بها .. لا ألقي كعادتي بالا لثرثرتها - أعتبرها ثرثرة - وتقف تنتظر أوامري فلا أجد بدا من القول لها :
- سأطلبك حين أحتاجك ..
تعرف أنها في حِلٍّ من الإنتظار فتخرج ، وأرفع عيني ناحية لوحة زيتية جاءتني هدية منذ أيام .. لم تكن ألوانها كثيرة أو متداخلة بل بسيطة شبه شفافة ؛ ورسمها هو الآخر بسيط للغاية .. سماء تلتقي بالأرض .. هناك في خط يبدو خرافيا للعين ربما يدفعك إلى التساؤل : " هل تعانق السماء الأرض " السماء المنفتحة على المجهول السابحة كالروح مع هذا الأديم العفن اليابس القاحل .. وكلما رفعت عيني ناحية اللوحة يُخيَّل إليّ أن هناك من يستغيث أو أنني أسمع استغاثة من مكان ما .. ولأنني منضبط في العمل أعود إلى صفحة مكتبي الفاخر وتغوص أصابعي بين الملفات ..
واليوم لم تطاوعني أصابعي فتغوص في الملفات كعادتها، أجد شيئا ما داخلي قد تغيّر أو هو في طور التغيّر ؛ ليس سأما ولا مللا فقد كنت فيما مضى إذا شعرت بنوع من السأم آخذ إجازة ولو ليومين أقصد فيها بعض المنتجعات وأرتاح .. أنسى الشغل .. ألغي جميع الإرتباطات ولا أهتم بأي ميعاد مهما كانت قيمته .. الحقيقة أنني دقيق فيما يخص شؤون صحتي .. لست من النوع الذي يهمل نفسه في زحمة الحياة ويوغل في العمل حتى يجد قلبه وقد انفجر أو أن معدل السكر في دمه على غير ما يرام؛ وربما مرض آخر كالإرهاق أو حتى الشقيقة أصابه؛ كلا أنا لست من هذا النوع؛ أنا أعطي لكل شيء أهميته التي يستحقها ، ومبدئي في الحياة " لكل مقام مقال " .. سمعت مرة أحد موظفي مكتبي يقول لزميله :
- أوروبي .. ياباني .. يمشي كالساعة ..
لا أنكر أن ما سمعته أطربني .. ولِحسْن حظ الموظف أنه لم يتَفوّه بما تَفوّه به أمامي وإلا لكان آخر يوم له معي .. المهم أن كلامه – بيني وبين نفسي – أطربني .. فأنا فعلا كالساعة وظللت طوال سنين شبابي ؛ وبعض كهولتي – أبلغ السابعة والأربعين من العمر – أُكذِّب الآخرين وكل من يحيط بي في دنيا أرهقها الكسل وأمراض التكاسل والفقر .. وأصر على النجاح وأبرهن على أنني ساعة ، ونسيت الزواج في غمرة النجاح ولما ذكرته أقنعت نفسي بعدم الزواج فالمرأة دافع إلى الفشل – لقد اِقتنعت أن المرأة كائن بليد – حتى أنني يوم مرضت ونادرا ما أمرض – كان ذلك منذ سبع سنوات – لم أقصد الطبيب أوّلاً بل قصدت المكتب ليس لشيء إنما لأؤكد للموظفين أهمية العمل والتفاني فيه .. وشعرت فترة ليست بالقصيرة أنني أصبحت ساعة .. أجل أصبحت ساعة ..
واليوم .. ما الذي تغير .. ككل صباح أستيقظ عند الخامسة ؛ أستحم ؛ أحلق ذقني ؛ ثم صوب المرآة أتجه ؛ أعمل جهدي كي أبدو بأناقة رجل الأعمال المشهور ؛ ولا أدع مجالا لأي تهكم من أي كان أو تنكيت ؛ حتى أنني ما فتئت أحافظ على رشاقتي ؛ ووزني لم يتغير أو يزد إلا بما تمليه ضرورة نمو الجسم وأخاف حتى تناول الفطور الذي تُحضِّره مربيتي الحاجة مسعودة – لم تكن بأي حال من الأحوال مسعودة في عمرها – وأتركه على حاله فلا أرتشف منه إلا بعض القهوة وأنا أتصفح عناوين الجريدة .. الجريدة التي لم تتغير عناوينها أبدا .. ويأتيني صوت الحاجة مسعودة مبحوحا – البَحّـة التي تُحبّبه إليك فتتمنى سماعه باستمرار ربما يذكرني بشيء ما – وتقول لي :
- دع القهوة يا ولدي وافطر .. إن الفطور الدسم يزيدك قوة ونضارة ..
وعبثا أبحث في سبب هذا القرف الذي أصابني وكان يتسلل إلي كالغريب الغازي منذ أيام ؛ وعبثا رغم محاولاتي المتكررة والمستميتة غادرني الغثيان .. الحقيقة أن ميولاتي تحولت إلى ميولات صبي في الثامنة ؛ أريد أن ألعب دون تحفظ ؛ أريد أن أركض هنا .. هناك ؛ يمينا .. شمالا ؛ أركض .. فقط أركض ؛ وأريد أن أجلس في عرض الطريق المُعبَّد الذي يفصل الضاحية عن وسط المدينة .. أن أجلس القرفصاء في عرض الطريق دون أن يرميني الأطفال بالحجارة ويرددون في غبطة وفرح عارمين :
- المجنون جاء .. المجنون جاء .. أحذر المجنون ..
وأرفع عيني مرة أخرى إلى اللوحة الزيتية ؛ بدا لي أنها تقول شيئا .. وعاد صوت الإستغاثة من جديد واضحا على غير العادة .. وأحسست أنني لم أعش طفولتي .. ولم أعش شبابي ولا كل حياتي .. أنا أكرر نفسي فقط هذا ما أفعله كل يوم .. أكرر نفسي .. إنني تافه ؛ إنسان تافه رغم البهرجة التي تحيطني والهالة الصاخبة التي يغمرني بها الناس .. أجل إنه هو .. الصخب .. الروتين .. الآلة نعم أنا آلة .. كرهت هذه الآلة .. كرهت البرنامج الذي عشت عمري أتفنن في المحافظة عليه وجاءتني فكرة الخروج عن هذا البرنامج .. قررت الخروج عنه وتحطيم الديكور الذي سجنت فيه نفسي .. وراح الصوت يصارع سواه ويرتفع ثم يرتفع .. أغلقت النوافذ .. خشيت أن يخرج فيسمعه الآخرون .. غير أنني تراجعت وأنَّبـت نفسي ما زالت تَحنّ إلى زمن الخوف من الناس وبرنامج الآلة فعدت أفتح النوافذ ؛ وأفتح باب المكتب على آخره؛ أريد أن يسمع الصوت كل الموظفين؛ كل الناس؛ أنا بحاجة أن تلتقي سمائي بأرضها .. أن أخرج إلى الفضاء فأعيش حريتي بعيدا .. بعيدا ..
وقبـل أن أخرج من مكتبي وأقصد حياتي الجديدة انتبهت إلى عنوان اللوحة في إحدى زواياها فقرأته ؛ كان يقول : " تحولات " .

13 ديسمبر 1999
إبراهيم رحمة
إبراهيم رحمة
أديب
أديب

ذكر
عدد الرسائل : 27
العمر : 54
العمل/الترفيه : مهندس معماري-خبير قضائي
تاريخ التسجيل : 16/06/2008

http://rahmaalgerie.maktoobblog.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

" تحولات.. " Empty أدمن راما

مُساهمة من طرف اسحق قومي الثلاثاء يونيو 17, 2008 2:17 am

أهلا بك أدمن راما....هكذا اخترت أن تظهر نقدر لك..نص فيه عناصر إبداعية ولأنني لا اسمي الأجناس الأدبية فهذا النص يرتقي إلى منابر الروح ..تألق دوما وأهلا بك
في مملكة الحب والنهار
اسحق وعبد الأحد قومي
ألمانيا
17/6/2008م
اسحق قومي
اسحق قومي
المدير العام
المدير العام

ذكر
عدد الرسائل : 835
العمر : 75
الموقع : https://alkomi.yoo7.com/profile.forum
العمل/الترفيه : معاقرة الشعر والأدب والتاريخ والإعلام والسياسة
المزاج : حسب الحالة
تاريخ التسجيل : 13/06/2008

https://alkomi.yoo7.com/profile.forum

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

" تحولات.. " Empty رد: " تحولات.. "

مُساهمة من طرف salsabeel السبت يوليو 12, 2008 3:38 pm

قرأت ماكتبته مرتان فكتابتك رشيقه والفاظك سهلة إنسيابية كأنك تعزف مقطوعه موسيقيه لا تخط قصه قصيرة
بوركت أستاذي وبوركت أناملك
salsabeel
AL-aksagirlAL-aksagirl@maktoob.com,salsabeel24@yahoo.com
salsabeel
salsabeel
عضو جديد
عضو جديد

انثى
عدد الرسائل : 2
العمر : 34
العمل/الترفيه : مدمنة للقراءة بشتى أنواعها وأحب الصداقات الجاده والهادفه
المزاج : إلى حد مامتعصبة للغه العربية
تاريخ التسجيل : 12/07/2008

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى